مَحَا الْبَيْنُ مَا أَبْقَتْ عُيُونُ الْمَهَا مِنِّي | فَشِبْتُ وَلَمْ أَقْضِ اللُّبَانَةَ مِنْ سِنِّي |
عَنَاءٌ وَيَأْسٌ وَاشْتِيَاقٌ وَغُرْبَةٌ | أَلا شَدَّ مَا أَلْقَاهُ فِي الدَّهْرِ مِنْ غَبْنِ |
فَإِنْ أَكُ فَارَقْتُ الدِّيَارَ فَلِي بِهَا | فَؤَادٌ أَضَلَّتْهُ عُيُونُ الْمَهَا مِنِّي |
بَعَثْتُ بِهِ يَوْمَ النَّوَى إِثْرَ لَحْظَةٍ | فَأَوْقَعَهُ الْمِقْدَارُ فِي شَرَكِ الْحُسْنِ |
فَهَلْ مِنْ فَتَىً فِي الدَّهْرِ يَجْمَعُ بَيْنَنَا | فَلَيْسَ كِلانَا عَنْ أَخِيهِ بِمُسْتَغْنِ |
وَلَمَّا وَقَفْنَا لِلْوَدَاعِ وَأَسْبَلَتْ | مَدَامِعُنَا فَوْقَ التَّرَائِبِ كَالْمُزْنِ |
أَهَبْتُ بِصَبْرِي أَنْ يَعُودَ فَعَزَّنِي | وَنَادَيْتُ حِلْمِي أَنْ يَثُوبَ فَلَمْ يُغْنِ |
وَلَمْ تَمْضِ إِلَّا خَطْرَةٌ ثُمَّ أَقْلَعَتْ | بِنَا عَنْ شُطُوطِ الْحَيِّ أَجْنِحَةُ السُّفْنِ |
فَكَمْ مُهْجَةٍ مِنْ زَفْرَةِ الْوَجْدِ فِي لَظَىً | وَكَمْ مُقْلَةٍ مِنْ غَزْرَةِ الدَّمْعِ فِي دَجْنِ |
وَمَا كُنْتُ جَرَّبْتُ النَّوَى قَبْلَ هذِهِ | فَلَمَّا دَهَتْنِي كِدْتُ أَقْضِي مِنَ الْحُزْنِ |
وَلَكِنَّنِي رَاجَعْتُ حِلْمِي وَرَدَّنِي | إِلَى الْحَزْمِ رَأْيٌ لا يَحُومُ عَلَى أَفْنِ |
وَلَوْلا بُنَيَّاتٌ وَشِيبٌ عَوَاطِلٌ | لَمَا قَرَعَتْ نَفْسِي عَلَى فَائِتٍ سِنِّي |
فَيَا قَلْبُ صَبْرَاً إِنْ جَزِعْتَ فَرُبَّمَا | جَرَتْ سُنُحاً طَيْرُ الْحَوَادِثِ بِالْيُمْنِ |
فَقَدْ تُورِقُ الأَغْصَانُ بَعْدَ ذُبُولِهَا | وَيَبْدُو ضِيَاءُ الْبَدْرِ فِي ظُلْمَةِ الْوَهْنِ |
وَأَيُّ حُسَامٍ لَمْ تُصِبْهُ كَهَامَةٌ | وَلَهْذَمُ رُمْحٍ لا يُفَلُّ مِنَ الطَّعْنِ |
وَمَنْ شَاغَبَ الأَيَّامَ لانَ مَرِيرُهُ | وَأَسْلَمَهُ طُولُ الْمِرَاسِ إِلَى الْوَهْنِ |
وَمَا الْمَرْءُ فِي دُنْيَاهُ إِلَّا كَسَالِكٍ | مَنَاهِجَ لا تَخْلُو مِنَ السَّهْلِ وَالْحَزْنِ |
فَإِنْ تَكُنِ الدُّنْيَا تَوَلَّتْ بِخَيْرِهَا | فَأَهْوِنْ بِدُنْيَا لا تَدُومُ عَلَى فَنِّ |
تَحَمَّلْتُ خَوْفَ الْمَنِّ كُلَّ رَزيئَةٍ | وَحَمْلُ رَزَايَا الدَّهرِ أَحْلَى مِنَ الْمَنِّ |
وَعَاشَرْتُ أَخْدَانَاً فَلَمَّا بَلَوْتُهُمْ | تَمَنَّيْتُ أَنْ أَبْقَى وَحِيداً بِلا خِدْنِ |
إِذَا عَرَفَ الْمَرْءُ الْقُلُوبَ وَمَا انْطَوَتْ | عَلَيْهِ مِنَ الْبَغْضَاءِ عَاشَ عَلَى ضِغْنِ |
يَرَى بَصَرِي مَنْ لا أَوَدُّ لِقَاءَهُ | وَتَسْمَعُ أُذْنِي مَا تَعَافُ مِنَ اللَّحْنِ |
وَكَيْفَ مُقَامِي بَيْن أَرْضٍ أَرَى بِهَا | مِنَ الظُّلْمِ مَا أَخْنَى عَلَى الدَّارِ وَالسَّكْنِ |
فَسَمْعُ أَنِينِ الْجَوْرِ قَدْ شَاكَ مِسْمَعِي | وَرُؤْيَةُ وَجْهِ الغَدْرِ حَلَّ عُرَا جَفْنِي |
وَصَعْبٌ عَلَى ذِي اللُّبِّ رِئْمَانُ ذِلَّةٍ | يَظَلُّ بِهَا فِي قَوْمِهِ وَاهِيَ الْمَتْنِ |
إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَرْمِ الْهَنَاةَ بِمِثْلِهَا | تَخَطَّى إِلَيْهِ الْخَوْفُ مِنْ جَانِبِ الأَمْنِ |
فَلا تَعْتَرِفْ بِالذُلِّ خِيفَةَ نِقْمَةٍ | فَعَيْشُ الْفَتَى فِي الذُّلِّ أَدْهَى مِنَ السِّجْنِ |
وَكُنْ رَجُلاً إِنْ سِيمَ خَسْفاً رَمَتْ بِهِ | حَمِيَّتُهُ بَيْنَ الصَّوَارِمِ وَاللُّدْنِ |
فَلا خَيْرَ فِي الدُّنْيَا إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَعِشْ | مَهِيباً تَرَاهُ الْعَيْنُ كَالنَّارِ فِي دَغْنِ |
وَلا تَرْهَبِ الأَخْطَارَ فِي طَلَبِ الْعُلا | فَمَنْ هَابَ شَوْكَ النَّحْلِ عَادَ وَلَمْ يَجْنِ |
وَلَوْلا مُعَانَاةُ الشَّدَائِدِ مَا بَدَتْ | مَزَايَا الْوَرَى بَيْنَ الشَّجَاعَةِ وَالْجُبْنِ |
فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي الْمُدْنِ مَا شِئْتَ مِنْ قِرَىً | فَأَصْحِرْ فَإِنَّ الْبِيدَ خَيْرٌ مِنَ الْمُدْنِ |
صَحَارٍ يَعِيشُ الْمَرْءُ فِيهَا بِسَيْفِهِ | شَدِيدَ الْحُمَيَّا غَيْرَ مُغْضٍ عَلَى دِمْنِ |
وَأَيُّ حَيَاةٍ لاِمْرِئٍ بَيْنَ بَلْدَةٍ | يَظَلُّ بِهَا بَيْنَ الْعَوَاثِنِ وَالدَّخْنِ |
لَعَمْرِي لَكُوخٌ مِنْ ثُمَامٍ بِتَلْعَةٍ | أَحَبُّ إِلَى قَلْبِي مِنَ الْبَيْتِ ذِي الْكِنِّ |
وَأَطْرَبُ مِنْ دِيكٍ يَصِيحُ بِكُوَّةٍ | أَرَاكِيَّةٌ تَدْعُو هَدِيلاً عَلَى غُصْنِ |
وَأَحْسَنُ مِنْ دَارٍ وَخِيمٍ هَوَاؤُهَا | مَبِيتُكَ مِنْ بُحْبُوحَةِ الْقَاعِ فِي صَحْنِ |
تَرَى كُلَّ شَيءٍ نُصْبَ عَيْنَيْكَ مَاثِلاً | كَأَنَّكَ مِنْ دُنْيَاكَ فِي جَنَّتَيْ عَدْنِ |
تَدُورُ جِيَادُ الْخَيْلِ حَوْلَكَ شُرَّباً | تُجَاذِبُ أَطْرَافَ الأَعِنَّةِ كَالْجِنِّ |
إِذَا سَمِعْتَ صَوْتَ الصَّرِيخِ تَنَصَّبَتْ | فَتُدْرِكُ مَا لا تُبْصِرُ الْعَيْنُ بِالأُذْنِ |
فَتِلْكَ لَعَمْرِي عِيشَةٌ بَدَوِيَّةٌ | مُوَطَّأَةُ الأَكْنَافِ رَاسِخَةُ الرُّكْنِ |
وَمَا قُلْتُ إِلَّا بَعْدَ عِلْمٍ أَجَدَّ لِي | يَقِيناً نَفَى عَنِّي مُرَاجَعَةَ الظَّنِّ |
فَقَدْ ذُقْتُ طَعْمَ الدَّهْرِ حَتَّى لَفَظْتُهُ | وَعَاشَرْتُ حَتَّى قُلْتُ لاِبْنِ أَبِي دَعْنِي |
وَلَوْلا أَخٌ أَحْمَدْتُ فِي الْوُدِّ عَهْدَهُ | عَلَى حَدَثَانِ الدَّهْرِ مَا كُنْتُ أَسْتَثْنِي |
وَرُبَّ بَعِيدِ الدَّارِ يُصْفِيكَ وُدَّهُ | وَمُقْتَرِبٍ يَجْنِي عَلَيْكَ وَلَمْ تَجْنِ |
وَمَا الْوُدُّ فِي الْقُرْبَى وَإِنْ هِيَ أَوْجَبَتْ | وَلَكِنَّهُ فِي الطَّبْعِ وَالشَّكْلِ وَالْوَزْنِ |
إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْوَدِيدَيْنِ خُلَّةٌ | فَلا أَدَبٌ يُجْدِي وَلا نَسَبٌ يُدْنِي |
فَذَاكَ أَخٌ لَوْلاهُ أَنْكَرْتُ كُلَّ مَا | سَمِعْتُ بِهِ عَنْ أَحْنَفِ الْحِلْمِ أَوْ مَعْنِ |
فَإِنْ لَمْ أُصَرِّحْ بِاسْمِهِ خَوْفَ حَاسِدٍ | يَنُمُّ عَلَيْهِ فَهْوَ يَعْلَمُ مَنْ أَعْنِي |
عَلَى أَنَّ ذِكْرَاهُ وَإِنْ كَانَ نَائِيَاً | سَمِيرُ فُؤَادِي فِي الإِقَامَةِ وَالظَّعْنِ |
أَنُوحُ لِبُعْدِي عَنْهُ حُزْناً وَلَوْعَةً | كَمَا نَاحَ مِنْ شَوْقٍ جَمِيلٌ عَلَى بُثْنِ |
فَمَنْ لِي بِهِ خِلّاً كَرِيماً نِجَارُهُ | فَقَدْ سَئِمَتْ نَفْسِي مُعَاشَرَةَ الْهُجْنِ |
تُجَاذِبُنِي نَفْسِي إِلَيْهِ وَدُونَنَا | أَهَاوِيلُ مُلْتَجِّ الْغَوَارِبِ مُسْتَنِّ |
لَعَلَّ يَدَ الأَيَّامِ تَسْخُو بِلُقْيَةٍ | أَرَاهُ بِهَا بَعْدَ الْكَزَازَةِ وَالضَّنِّ |
وَإِنِّي وَإِنْ طَالَ الْمِطَالُ لَوَاثِقٌ | بِرَحْمَةِ رَبِّي فَهْوَ ذُو الطَّوْلِ وَالْمَنِّ |