تلقيت دعوة كريمة من الصديق اللواء أبو بكر الجندي رئيس الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء لكي أشارك في احتفال يوم الإحصاء العالمي يوم20 أكتوبر الذي تقيمه الأمم المتحدة وعندما قبلت الدعوة لم أكن متأكدا من أنها جاءت إلي العنوان الصحيح
فلعلم الإحصاء أهله الذين ذخر بهم جمع الاحتفال الذي شارك فيه رئيس الوزراء أحمد نظيف ونخبة كبيرة من الوزراء والعلماء من أهل الفضل الذين قدموا لعلم الإحصاء في مصر خدمات جليلة. وبعد تفكير اهتديت إلي أن الدعوة جاءت لي ممثلا عن تلك الجماعة الواسعة من الباحثين الذين يستهلكون الإحصاءات ويستخدمونها في التحليل والتشخيص لظواهر متعددة داخل البلاد وخارجها. وبالنسبة لي كان توجهي تجاه علم الإحصاء دائما خليطا من الحاجة والتوجس خيفة; أما الحاجة فمعلومة القصد فلا يمكن تحليل ظاهرة دون معرفة أبعادها وسبل قياسها, أما الخوف فهو ناجم من سبل تشويه المعلومات.
وفي الذهن دائما كانت كلمات الزعيم البريطاني تشرشل إن علينا أن نقيم الحقائق أولا ثم نشوهها بعد ذلك; والمقصود أن المعلومات والبيانات والحقائق ينبغي لها أن تكون دقيقة تماما بغض النظر عن الهوي والغرض, وما يأتي بعد ذلك من تحليل وتفسير يختلط فيه الحق بالباطل فلعل ذلك أمر آخر.
وفي كل الأحوال فإن نقطة البداية دائما كانت أن تكون بيانات كمية عن الظواهر المختلفة, وفي ظني دائما أن الحضارة البشرية بدأت باختراعين: النار التي منها انطلقت كل أنواع الطاقة, والأرقام التي بدأ منها العد والقياس والمقارنة والتقدير.
النار ليست موضوعنا الآن, أما الأرقام فهي أول فصول الإحصاء. ويكتسب الرقم أهمية خاصة لاعتبارات عديدة: أولها, أن الرقم يمثل حقيقة باردة أو صارمة لا يمكن التشكيك فيها, كما أنه لا يدع مجالا للتخمين أو التأويل, فهو يعبر عن وصف دقيق لشيء ما يمكن من خلاله تقييمه بأكبر قدر من الدقة والموضوعية. وثانيها, أن الرقم هو الذي يمنح الأفكار المختلفة دقة عملية ويترجمها إلي مؤشرات تطبيقية. وثالثها, أنه أصبح جزءا من حياة البشر في المجتمعات المختلفة, فعن طريقه يمكن قياس تقدم الدول وتأخرها, واتجاهات الرأي العام فيها وغيرها. ومع تشابك واتساع نطاق الأنشطة الاقتصادية والتجارية احتاجت الدول المختلفة إلي البيانات والأرقام لتنظيم عمليات مثل الضرائب وإحصاء عدد السكان وخصائصهم الاجتماعية والاقتصادية. ورابعها, أن الرقم أصبح العنصر الأساسي في الإدارة العلمية الحديثة, إذ أن القدرة تبقي محدودة بل منعدمة علي إدارة شيء لا يمكن قياسه.
أما الإحصاءات فتقوم بتأدية أربع وظائف أساسية: الأولي, هي جمع البيانات, التي تعتبر أقدم وظائف الإحصاء. والثانية, هي وصف هذه البيانات المتاحة, لأنها في صورتها الأولي تبدو بيانات خام أو غير محللة, ومن ثم تتم الاستعانة في هذا السياق بالجداول والرسوم البيانية والنسب والأرقام القياسية وغيرها لتحويل هذه البيانات إلي معلومات. والثالثة, هي الاستقراء, ويعني الوصول إلي تعميمات عن المجتمع علي أساس المعلومات المتاحة. ويعتبر الاستقراء الإحصائيStatisticalextrapolation, عنصرا مهما في عملية التنمية. أما الوظيفة الرابعة, فهي صنع القرار, وتعد أحدث الوظائف التي تقوم بها الإحصاءات, وتقوم علي اختيار أحد البدائل المطروحة علي أساس منطقي ومن خلال أرقام لتحقيق هدف معين مثل تحقيق أكبر قدر من الأرباح.
وتمارس هذه الإحصاءات والمقاييس التي تستخدمها دورا مهما في عملية التنمية, إذ إنها تساعد إلي حد كبير في السير نحو الاتجاه الصحيح, وعلاج الأخطاء والسلبيات الموجودة. فعلي سبيل المثال تلعب ما تعرف بـ التوزيعات الإحصائية دورا مهما في تقييم كفاءة تشغيل الآلات في إحدي الوحدات الصناعية بشكل يوفر فرصة لأصحاب الأعمال للتحرك من أجل تجنب الخسائر التي يمكن أن تنتج عن الأعطال التي يمكن أن تصيب أيا من هذه الآلات أو أي جزء من أجزاء هذه الوحدة.
لكن استخدام الرقم يواجه عددا من الإشكاليات: أولاها, التعامل بمنطق مقلوب مع بعض الأرقام, بما يؤدي إلي تشويهها وإفراغها من مضمونها ومنحها دلالات عكسية. وثانيتها, الاستناد إلي النهج الانتقائي في التعامل مع الأرقام, بشكل يؤدي إلي غياب الحقائق وإفراز نتائج مغايرة وغير حقيقية. ففي مصر علي سبيل المثال تركز بعض الجماعات والقوي علي قضية الفقر وليس الغني, وتعتبر أن ذلك هو المؤشر الرئيسي والوحيد لقياس حالة الرفاهية والتنمية في الدولة. وذلك دون النظر إلي المؤشرات الأخري التي تتحدث عن ارتفاع مستوي المعيشة داخل مصر. فعلي سبيل المثال, ارتفع مؤشر التنمية البشرية, وفقا للتصنيف الدولي, من0,524 عام1995, إلي0.688 عام2004, ثم إلي0.731 عام2009, وهو ما يعني انتقال مصر من المستوي المنخفض إلي المستوي المتوسط, فيما تتبقي70 نقطة للانتقال إلي المستوي المرتفع. فضلا عن ذلك, فإن بعض المؤشرات الأخري تشير إلي ارتفاع مستوي المعيشة والرفاهية في الدولة. كما تسير بعض الإحصاءات في الاتجاه نفسه الذي يشير إلي ارتفاع مستوي المعيشة, فقد كشف أحد التقارير أن المصريين ينفقون ما يقرب من70 مليون دولار شهريا علي مستحضرات التجميل, وأن إجمالي إنتاج مصانع وشركات مستحضرات التجميل في مصر يصل إلي1.1 مليار دولار, فيما يصل حجم الاستثمارات في هذه الصناعة إلي362 مليون دولار. كما أشار تقرير آخر إلي وصول عدد مشتركي التليفون المحمول في مصر إلي60.2 مليون مشترك, بزيادة تقدر بحوالي20.3% علي ما كانت عليه في الفترة نفسها من العام الماضي.
كذلك فإن ثمة إشكاليات ترتبط بالأبعاد الاجتماعية في الدولة, حيث يستخدم البعض مؤشرات كالفقر والبطالة وارتفاع الأسعار للإشارة إلي اختفاء أو تآكل الطبقة الوسطي في مصر, دون النظر إلي المؤشرات التي تؤكد عكس ذلك, فإلي جانب المؤشرات السابق ذكرها والتي تشير إلي ارتفاع مستوي المعيشة والرفاهية في مصر, تؤكد بعض التقديرات أن نصيب الطبقة الوسطي من إجمالي الدخل القومي للدولة يصل إلي حوالي62%. كما أن بعض الإشكاليات ترتبط ببعد استراتيجي يتركز حول صعوبة الوصول إلي أرقام خاصة بمؤسسات حساسة في الدولة كوزارة الدفاع أو إدارة المخابرات العامة أو أمن الدولة أو غيرها من المؤسسات التي تدخل في قائمة مؤسسات الأمن القومي في الدولة.
وللحق فإن هناك معايير جديدة لم ندخلها في حسابات التنمية, مثل نوعية الحياة أو السعادة أو الديمقراطية أو التقدم أو الفجوة بين الجنسين. فنتيجة للانتقادات المستمرة التي تتعرض لها التقارير التقليدية مثل تقرير التنمية البشرية في العالم, الذي يعتمد في تقييمه لنوعية الحياة في دول العالم المختلفة علي مؤشرات مثل إجمالي الناتج المحلي, ونصيب الفرد منه, والعمر المتوقع عند الولادة ومعدلات البطالة والتضخم وغيرها, ظهرت تقارير جديدة تستخدم مؤشرات غير تقليدية, مثل السعادة أو الرضا. ويعتمد ترتيب الدول وفقا لهذا المؤشر علي عوامل مثل مدي التمتع بحياة سعيدة وطويلة وحجم استهلاك الموارد الطبيعية ومدي التوافق مع البيئة الطبيعية. وقد طرحت مؤسسة علم الاقتصاد الجديدNewEconomicFoundation مؤشرا للسعادة في يوليو2006, أطلق عليه مؤشر الكوكب السعيدTheHappyPlanetIndex, حاول تجاوز السلبيات التي تواجهها التقارير التقليدية التي تتحدث عن رفاهية الناس, مؤكدا أن الهدف الأساسي للبشر لا يكمن في أن يصبحوا أغنياء بل سعداء, وأن الوصول إلي قمة السعادة لابد أن يأخذ في اعتباره أبعادا غير تقليدية مثل البعد البيئي. بمعني أن أكثر الناس سعادة, وفقا لهذا المؤشر, هم أكثرهم صداقة للبيئة, وأن أفضل الدول هي التي توفر الفرصة لمواطنيها لأن يكونوا الأفضل علي مستوي العالم دون أن يخصم ذلك من فرص الأجيال أو الدول الأخري في الوصول إلي نفس الدرجة من الرفاهية والتمتع بحياة سعيدة.
وقد أجرت المؤسسة مسحين في عامي2006, و2009, تم تطبيقهما علي178 دولة, و143 دولة علي التوالي, وجاءت كوستاريكا في المرتبة الأولي عام2009, تليها جمهورية الدومينيكان, وجامايكا وجواتيمالا, وفيتنام, وكولومبيا, فيما جاءت بتسوانا, وتنزانيا, وزيمبابوي في المراتب الأخيرة. فيما جاءت مصر في المرتبة الثانية عشرة. كما أجرت مؤسسة جالوب الدولية استطلاعا للرأي عن الدول الأكثر سعادة علي المستوي العالمي وقد ضمت القائمة155 دولة وشمل الاستطلاع آلاف الأشخاص من هذه الدول بين عامي2005 و2009 وسعي الاستطلاع إلي قياس نوعين مختلفين للسعادة: الأول, مدي قناعة المستطلعين بحياتهم. والثاني, مدي شعورهم بالاستقرار. وقد حصلت الدانمارك علي المرتبة الأولي, تلتها فنلندا في المرتبة الثانية, ثم النرويج في المرتبة الثالثة, فالسويد وهولندا معا في المرتبة الرابعة, ثم كوستاريكا ونيوزلندا في المرتبة السادسة, وكندا وأستراليا وسويسرا في المرتبة الثامنة, واحتلت الولايات المتحدة الأمريكية المرتبة الرابعة عشرة أما علي المستوي العربي, فقد حصلت مصر علي المرتبة115 علي مستوي العالم, والمرتبة15 علي الصعيد العربي, وأكد الاستطلاع أن المصريين حققوا نسبة نجاح10% في مواجهة ضغوط الحياة. وجاءت دولة الإمارات العربية المتحدة في المرتبة20 علي مستوي العالم والأولي علي الصعيد العربي, تلتها الكويت في المرتبة23 علي مستوي العالم والثانية علي المستوي العربي, ثم قطر في المرتبة35 علي مستوي العالم والثالثة عربيا, فالبحرين في المرتبة48 علي مستوي العالم والرابعة عربيا, والأردن في المرتبة52 علي مستوي العالم والخامسة عربيا, ثم المملكة العربية السعودية في المرتبة58 علي مستوي العالم والسادسة عربيا.
وبالإضافة إلي مقياس السعادة, يوجد مقياس آخر هو مقياس الفاعلية, الذي يقيم مدي قدرة المجتمع علي التكيف مع التداعيات التي تنتجها العولمة وانتشار ظاهرة الشركات العابرة للقارات, ويستند إلي خمسة مؤشرات أساسية هي: حوكمة الشركات, وقواعد المحاسبة, والفساد, وتقدم المؤسسات القانونية, والقدرة علي تطبيق السياسات الاقتصادية.
ورغم أن كل هذه المقاييس لا يزال أمامها طريق طويل حتي تنضج إلا أنها تضع أمامنا الواقع المعقد لقضية التنمية, وتضع أمام علم الإحصاء وعلمائه تحديات جديدة لكي تقترب من هذا الواقع بمؤشراته ومقاييسه.