قصة من الواقع :
-------
أكتب لك عن والدي, الذي كان يعاملنا ـ أنا واخواتي وأمي ـ معاملة مهينة حتى فقدت أمي الحياة, كمدا, ورفض تسلم جثتها ودفنها , ثم تزوج بعدها عدة مرات, وبعد أن ذهب لأداء العمرة, انقطعت أخباره عدة سنوات حتى صدر قرار المحكمة بفقده, وحصلنا على ميراثه, ولكن شاءت إرادة الله أن أجده مصادفة بعد سنوات, عجوزا منهكا, فاقدا للذاكرة, يمسح سلالم العمارات, ويتسول ثمن طعامه, ودوائه, بعد ان كان في رغد من العيش, يحرمنا نحن منه, ويهيننا في أعمال مرهقة لننفق على أنفسنا!
فجمعت أخواتي, وأخذتهم ومعنا المحامي وذهبنا لنرى أبي الذي عاد.. سألنا عليه, فدلنا أولاد الحلال على مكانه, وعلمنا انه تم نقله الى أحد المستشفيات الحكومية, فذهبنا اليه هناك, ورأينا مشاهد مؤلمة, فقد كان ينام على مرتبة متهالكة, في حجرة كئيبة, بها كثير من المرضى, الذين أخبرونا أنه يذهب كثيرا في غيبوبة, وأن الاطباء يريدون ان يخرجوه, ولكنهم لايعرفون أهله حتى يتسلموه.
ذهبنا للطبيب لنسأل عن حالته, فقال انه يعاني من أمراض كثيرة: ضغط وسكر ومياه على الرئة, وتليف بالكبد, ودوالي بالمريء, نقلناه الى أحد المستشفيات النظيفة بالقاهرة على مسئولية المحامي, وعندما أفاق من الغيبوبة بكى بشدة, وقال : وحشتوني, لماذا لم تأتوا الي منذ فترة, بكينا سيدي من هذه الكلمات, ومن حالته المأساوية, ومن وصف الأطباء لأمراضه الكثيرة, كان يقول هذه الكلمات ودموعه تغرق وجهه الذي سكنته الشقوق والجروح, وكأنه كان يشعر أننا أولاده!!
خرج الرجل من المستشفي, بعد علاجه, وعلم اننا بناته, وكان كلما يرى واحدة منا يداري وجهه, وهو يبكي ويستغفر الله على ما فعل فأقول له انت مش مبسوط انك عرفت ولادك؟, فيقول كان نفسي أكون مبسوط ولكن ذكرياتي معكم ذكريات مؤلمة، ولهذا لن استطيع العيش معكم, سأعود إلى حجرتي الصغيرة, أكنس وأمسح السلالم, والبيوت, ولكن كل ما أطلبه منكم يا ابنتي هو ان تسامحوني.. سامحوني أرجوكم!!
كررها.. أكثر من مرة... سامحوني, فقلت له لو سامحناك نحن في حقنا, فمن يسامحك في حق أمي؟... فقال وهو يبكي يا ابنتي.. ياويلي من عذاب الله, فلا أدري ماذا أقول لربي عندما يسألني, لماذا لم تنفق على بناتك, وقد رزقتك مالا كثيرا, لماذا تركتهن ومعهن زوجتك المريضة يعملن لينفقن على أنفسهن؟
.. ماذا سأقول لربي إذا سألني لماذا لم تتسلم جثة زوجتك, وتدفنها؟!
أخذته أختي الوسطي بعدها ليعيش معها, ولكنها ـ سامحها الله ـ كانت تعطي له العلاج على معدة خالية لأنها كانت تقوم من النوم متأخرة, وكان أول طعامه هو العيش الناشف فكان يطلب منها ان تبلل له العيش ليستطيع مضغه, فكانت تغرق العيش في الماء حتى يتفتت, فيلملمه بأصابعه الضعيفة, وهو لا يملك ما يسد جوعه غير ذلك
كنت رافضة أن يعيش معي في الشقة, فأنا أعيش منفردة, وكنت لا أريد أن أعيش لخدمته, وكنت أقول لنفسي في بعض الأوقات اتركيه يتبهدل عند ولاده ثم اذهبي به لحجرة الموت التي كان يعيش فيها.. أعرف انكم جميعا ستدعون بأن ينتقم الله مني, وقد قلتها بالفعل لنفسي!!
لم أستطع أن أتركه بعد كل ذلك, واصطحبته معي إلى شقتي, كنت أبحث عن رضا ربي, قبل أي شيء, على الرغم من النار الدفينة التي كانت تسكن أحشائي مما فعله معنا.. عشنا معا فترة شعرت فيها ـ لأول مرة ـ بطعم أن يكون لك أب يربت على كتفيك, يحنو عليك, كنت أدخل الشقة فأجده واقفا في الشباك ينتظرني, ويطمئن علي, كان يطلب مني أن آخذه إلى مقبرة والدتي, وعندما وقف أمامها, بدأ في قراءة القرآن, وبكي كثيرا, ثم طلب منها أن تسامحه, وأن تشفع له عند الله ليسامحه.
لا أنسى هذه الأوقات التي كان يساعدني فيها في لملمة أوراقي التي كنت أحضرها بالمنزل, ثم نبدأ في اللعب على الكمبيوتر, لم أعد أحتمل البيت بدونه, فقد كان يذهب لزيارة حجرته, التي كان يسكن بها, فلم أتحمل هذه الساعات, وأذهب فورا لإحضاره, لا أخفي عليكم سيدي, أنه حتى النوم أصبح له طعم في وجوده, فكنت أستغرق في النوم وأنا مطمئنة أن أبي معي في المنزل يحرسني بدعواته التي لا تنقطع!!
في هذه الأوقات قررت أن أذهب لقضاء العمرة, وعندما أخبرته, ضحك, وقال: أوعي تفقدي الذاكرة..وبكى وقال لي ومن سيزورني, ثم بدأ يوصيني بالدعاء, ووعدته بأن أصطحبه معي في المرة القادمة, سافرت بعد أن أعطيته تليفونا محمولا لكي أطمئن عليه, وبعدها علمت أنه مرض, ولم يجد أحدا يدخله المستشفى, وبعد أن قضيت عمرة رمضان, عدت, وأخذته إلى المستشفى, كان يعاني في هذه المرة, يبتسم كثيرا, ويبكي أكثر, ويشرد بناظريه أكثر وأكثر.. وكان يردد دائما : ترى يا ربي هل خففت عذابك عني, ترى هل تقبلت دعوتي؟.. هدأته ولأول مرة نبض قلبي بالدعاء له, أن يشفيه, تركته في اليوم التالي, وذهبت لعملي, وعدت مسرعة بعد أن اتصلت بي الممرضة, لتخبرني أنه في غيبوبة, فاقتحمت حجرة الرعاية المركزة, ورميت نفسي فوق صدره, وبكيت, كما لم أبك من قبل, وصرخت بأعلى صوتي.. يارب, دعه يشعر بي, ولو لحظة واحدة, لكي أقول له: سامحني.. سامحني على كل لحظة عاملتك فيها بجفاء, فقد كان كل ذلك رغما عني.. جلست عند قدميه, وقبلتهما, ثم قبلت رأسه, واستحلفته ألا يتركني, وطلبت منه أن يغفر لي, ثم ذهبت لأصلي, وما هي إلا لحظات, وحضرت الممرضة, لتقول لي : البقاء لله!...
رحل أبي ورحت أنا في غيبوبة وعلمت بعد أن أفقت أن أعمامي رفضوا دفنه في مقابرهم فدفنه خالي في مقابر العائلة بجوار أمي التي رفض ـ سابقا ـ استلام جثتها, ربما تكون قد سامحته هي الأخرى!