بقايا نظام «القذافي» فى بنغازى: سجون تحت الأرض.. واستراحات فوقها للمرتزقة الأفارقة
تصوير other
Prev
Next
Pause
Play
جاء قاطعاً مئات الكيلومترات بعدما سمع عن سقوط كتيبة
الفضيل بوعمر الليبية، ليتفقد أحوال مدرسته الثانوية، التى طرد منها هو
وعشرات الطلاب عام 1990 ليضمها القائد معمر القذافى إلى كتيبته العسكرية،
مرسلاً إياهم إلى منطقة «الكفرة» التى تبعد عن مدينة بنغازى مسافة 1200
كيلو متر فى اتجاه السودان.
وقف المهندس محمد الشامى وسط فصله الدراسى الذى أكلته النيران
عدا «السبورة السوداء »، التى زينها عشرات الليبيين بمجموعة الشعارات
المنتقدة لحكم القذافى، والتى تعد الأولى من نوعها منذ حكم دام أكثر من
واحد وأربعين عاماً، كان من بينها «الموت للطاغية»، «يسقط معمر القذافى»،
«ليبيا حرة»، قائلاً: «هذا فصلى 1-1 الذى طردنى منه القذافى فى شهر ديسمبر
1990، ليستولى على المدرسة ويضمها إلى كتيبته العسكرية».
وأضاف: «لم نكن نتوقع أن استيلاء القذافى على مدرستى صلاح
الدين الأيوبى، ستتحول فى يوم من الأيام إلى إيواء للمرتزقة القادمين من
تشاد ومالى، الذين أسقطوا مئات الشهاء وآلاف الجرحى يوم 17 فبراير أثناء
الانتفاضة الليبية، ليتحول المكان الذى كنت أتعلم فيه ويحمل لقب القائد
العظيم صلاح الدين الأيوبى محرر المسجد الأقصى إلى ثكنة عسكرية يتم
استخدمها لضرب وتعذيب الشعب الليبى».
اصطحبنى الشامى فى جولة داخل المدرسة سابقاً الثكنة العسكرية
حالياً، ليعرفنى على مدرسته الثانوية بفصولها المختلفة مردداً: «كان مدير
المدرسة رجلاً عالماً جليلاً اسمه سعد سنيدل وكان عددنا فى الفصل الواحد
يتراوح مابين 10 و15 طالباً»، مشيراً إلى إحدى البوابات التى أوصلتنا إلى
حديقة خلفية تضم أفضل أنواع النباتات وتعطرها رائحة الريحان: «هنا كنا نقضى
الأوقات بين الحصص المختلفة».
علامات البهجة التى رسمتها ذكريات الشامى على ملامح وجهه
الخمسينى، سريعاً ما تحولت إلى عبوس وحزن شديد، عندما مررنا بمقعد متحرك
طالته النيران وحولته إلى قطعة فحماء اللون قائلاً: «هذا الكرسى وجدنا عليه
جثة متفحمة لأحد العساكر الليبيين، عذبه المرتزقة لأيام حتى ينضم إليهم
ليقتل أبناء الشعب الليبى، وعندما رفض الانصياع إلى أوامرهم ربطوه فى
الكرسى وأضرموا فيه النيران حتى تفحمت جثته».
إشعال النيران فى جثة العسكرى بدت لليبيين أنفسهم أمراً
هيناً، وهو ما جعل خالد الشيخى أحد الشباب الليبيين يصطحبنى إلى مكان
السجون التى بناها القذافى تحت سطح الأرض وقام ببناء مبانى الكتيبة
العسكرية فوقها.
مدخل الكتيبة أصبح مزاراً سياحياً لأبناء الشعب الليبى وأسرهم
الذين وفدوا من مدن المنطقة الشرقية التى تحررت، وفقاً لوصف الشيخى، بعد
سقوط كتيبة الفضيل بوعمر والتى تعد أكبر كتيبة تابعة للقذافى فى المنطقة
الشرقية ويعد سقوطها بمثابة سقوط القذافى، فالمئات وفدوا إلى المكان ليس
فقط للاحتفال بسقوط القذافى وإنما ليرضوا فضولهم برؤية الكتيبة التى اختفى
بداخلها المئات من أفراد الشعب الليبى.
اصطحبنى خالد إلى أحد أرجاء الكتيبة مستخدمين سيارته
«المازدا» الصغيرة للتحرك بسهولة بين أنحاء الكتيبة، التى تقع على مساحات
شاسعة تصل إلى عشرات الكيلومترات ويحيطها ما يقرب من 5 مناطق ليبية فى
مدينة بنغازى وهى: البركة والزيتون والحميضة والفؤاد والكيش، وتضم بين
جنباتها عشرات السجون.
فى البداية توقفنا فى مكان خال من المبان تتخلله عمليات حفر
كثيفة، سألت خالد: «لماذا توقفنا ولم نكمل طريقنا إلى السجون؟»، طلب منى
النزول من السيارة وتوجهنا إلى أماكن الحفر، لنجد عالما من الأنفاق بناه
القذافى تحت سطح الأرض يؤدى بعضها إلى عشرات السجون والبعض الآخر خارج
الكتيبة.
توجهنا إلى أحد أبواب السجون التى نجح الأهالى فى الوصول إليه
وفتحه، رغم سمكه الذى وصل إلى 30 سنتيمتراً وصناعته من مادة الفولاذ، تلاه
باب حديدى آخر يقودك إلى درجات أشبه بدرجات المقابر الفرعونية، لتصل فى
النهاية إلى ممر طويل مقسم إلى حجيرات صغيرة تبلغ مساحة الواحدة مترين
طولاً ومترين عرضاً.
جدران الحجيرات الصغيرة كانت كفيلة لقص حكايات السجناء، الذين
وصل عددهم داخل الحجيرة الواحدة قرابة الـ5 أشخاص، وهو ما بدا من الأسماء
المحفورة على جدرانها، التى حفرت عليها أسماء مصطفى وسالم والمسمارى
والزويدى والجيلانى، وفى حجيرة آخرى حفر أحد السجناء رسومات لسفن متعددة
الطوابق ومكتوباً بجوارها إبراهيم المشاى 1996، وكأن المشاى كان يأمل فى أن
تتحول السفينة التى حفرها إلى حقيقة لتقله إلى مكان آخر بعيداً عن القذافى
ونظامه.
الممرات الداخلية للسجن أشبه بالمغارة التى تحتاج ممن يدخلها
إلى تركيز شديد حتى لا يفقد، وهو ما حدث معنا أثناء تجولنا داخل السجن، حيث
دخلنا وخرجنا من ممرات متشابهة لأكثر من مرة إلى أن وصلنا فى النهاية إلى
المخرج.
رغم مرور أيام على سقوط الكتيبة التى كان يرأسها اللواء
عبدالفتاح يونس، ويعد أحد الرجال المقربين من القذافى، والذى أعلن تضامنه
بعد ذلك إلى الشعب «عندما وجد نفسه محاصراً وبعيداً عن طرابلس التى تبعد
مسافة 1200 كيلومتر عن بنغازى»، بحسب قول خالد، إلا أن عمليات الحفر مازالت
مستمرة فى الكتيبة، وهو ما برره خالد قائلاً: «مازال العشرات من الليبيين
متواجدين تحت الارض، فالشباب عندما اقتحموا الكتيبة وتمكنوا من دخولها بعد
سقوط العشرات منهم قتلى على أيدى المرتزقة وقوات الأمن التى احتمت فى
الكتيبة، سمعوا أصواتاً تستنجد بهم، ولكنهم حتى هذه اللحظة مازالوا يبحثون
عن مداخل ومخارج هذه السجون حتى يتمكنوا من إنقاذ إخوانهم».
الوضع فى الكتيبة أشبه بفيلم سينمائى حيث السجون المحفورة تحت
سطح الأرض لا يصلها ضوء ولا هواء، يعلوها مساحات شاسعة من الحدائق الخضراء
وقليل من المبانى العسكرية تتخللها الطرق الأسفلتية، فضلاً عن مجموعة
الأنفاق التى وجدها الأهالى تحت الأرض والتى استخدمها الجيش والمرتزقة فى
الهروب خارج مدينة بنغازى إلى الصحراء.